حنانيكَ أبتــــاه../ الدكتور محمد ولد الخديم

سنونٌ مرتْ سراعاً في رحابكَ وكأنها لحظاتٌ وبين جنباتِ ربوعٍ كنت تغدقها حناناً ولطفاً وكرما.. حافلة يتعانق خلالها تَصميمَ الشجعانِ وإرادةَ العظماءِ لتُشيدَ للفضيلةِ مدرسةً حيةً خالدة فديتَ فيها عِرضَ العشيرِ بعَرَضِكَ وخُلقك وصحتك.
كانت نفسكَ الأبية العظيمة ترْتقي إلى مقاماتِ العارفينَ المخلصينَ في تواضعٍ لا هوانَ فيه ولا ابتذال.. وعِزَّة لا تجبر فيها ولا تكبرَ وهيهات هيهاتْ أن يُدرك شَأوَك العالي في كل مراحلِ حياتك مسابقْ:

كنت الناصحَ الأمين الوفيَّ للجميع يَتَداعى الكل ليسْتظِلَ برحماتك الوارِفاتْ وحنانك الأبوي الرَّؤومِ يعبُّ الجميع من نكهة أدبكَ وتأدبكَ وجزالة أسلوبكَ وحلاوة منطقكَ وثراء مجلسك وبهاء حضرتك وسلطانِ جمالكَ الخَلقي والخُلقي الآسر .

كانت أحاديثك أمانَ الخائفين وأُنسَ الملهوفين ونعيم السامرين يتَشَّربُها شِغافُ القلبِ وكأنها حبـَّــــــاتُ البَرَدِ أو قطراتُ الندى تَسَّاقَطُ في هجيرِ اليوم الصائف .. كنت الطود الشامخْ والحضنَ الحنون وبوتقة الحب .. كنت منجىً نستعصمُ به وملجاٌ نستجير به وزاداً نستقوي به وذخراً نستلهم منه .

تشقُ طريقك متسامياً على جراحاتِ المرض وآلامه واثقَ الخُطى وافرَ الحلمِ راجحَ العقلِ عصامي المبدإ والهدف، بلغت الأشُدَ يافعا فجسدت ظاهرةً اجتماعيةً أخلاقيةً فاضلة ارتسمت بها معالم "الإنسان الأمة" بكل المؤهلات والمثلِ والقيم .

أبي الغالي: ستبقى في العقل والوجدان نبراسا وهاجا ومعينا دفاقا وبلسما شافيا، نستشفيِ، نستنيرُ، نستسقي، ونستلهمُ منه نحن الأبناءَ معانٍ ثرةً ومُثَلاً عظيمة . ستبقى بيننا قامةً سامقة تجاوزتْ حدود جغرافيةِ الوجدانِ وفضاءِ اللاشعورِ مُلتحمةً بالوجود المتجدد الدائم والشعور الحاضر ... فلن ننساك حتى نتذكركَ ولن نتناساك ولن نسلو عنك . لن ننساك في حياتك ولن ننساك وأنت تُسَلَّمُ روحك الطاهرة لبارئها، ونفسك المطمئنة الآئبةَ إلى ربها "راضيةً مرضيةً" تنطق "الشهادة" في نسقٍ إيماني عز نظيره.. ولن ننساك وأنت في معية "الذين أنعم الله عليهم" فنعم الجليس هم ونِعْمَاهِيَ الحضْرَة .

أَبِي الشهيدْ: كيف ودعناك ولما نَجْثِمْ على الرُّكبِ لاثمينَ جبينكَ المُتلالي ومشرأبةٌ أعناقنا لنضمك لنحتضنك حميميا وأنت ترحل عن عالمنا .

ذكرتنا في حياتك بسيرة أولياء الله وعباده الصالحين.. واستحضرنا من خلال لحظاتك الأخيرة لحظاتٍ قرآنيةً من حياة يونس وأخيه أيوب عليهما السلام . فديناك بأنفسنا أبتاه لكن قَدَّرَ الله وما شاء فعل !!

ونتعزى باستعدادك الدائم وإعدادك الكثير لهذا الموقف تهيأ وتهيبا فرحمك الله وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة . أما أنتم – معشر أهل الشهيد - فنعلم - تالله – أن المصاب جللٌ جلل إلا أنه لابد في الوارد من سياقه وتداعياته في إحداثيات الزمان والمكان والوجدان وفي هذا المقام المؤثر وقد تفطَّرَت القلوب أسى أن نستدرك الأحداث هنيهة على الأقل لنرجع بالذاكرة إلى لحظات من حياة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يودع ابنه: "إن العين لتدمع وإن القلب ليخشع ولا نقول إلا ما يرضي الرب"، فأنتم العزاء . 

إنا ألله وإنا إليه راجعون